بسم الله الرحمن الرحيم

الهدم بالوكالة

لماذا كان المنافقون (في الداخل) أشد خطرًا من الكفار والمشركين (في الخارج) رغم أنهم (أي المنافقين) من بني الجلدة، وأبناء عم، ويعلنون الدين نفسه، ويتحدثون اللغة نفسها؟ ولماذا حذَّر منهم الخالق في مُحكم التنزيل أضعاف ما حذر الأمة من الكفار والمشركين؟ لماذا أُمر المؤمن بأن يتعوذ من الشرور (الداخلية) بثلاثة أسماء من أسماء الله العظمى {برب الناس * ملك الناس * إله الناس}، بينما أُمر بأن يتعوذ من الشر الخارجي باسم واحد فقط {برب الفلق}؟ هل المعدة فعلاً هي بيت الداء كما تقول العرب؟ الإجابة واضحة ومتواترة في النهج الإلهي وفي السنن الكونية وفي تاريخ الأمم: الهدم من الداخل أسهل، ونتائجه أقسى وأعتى.. وقبوله ممن يقع أثره عليهم أيسر؛ لذا فإن العدو الخارجي يستعين بمنفذين من الداخل لتحقيق أهدافه التخريبية. آلية الهدم من الداخل أشد خطرًا وأكثر أثرًا من الآلية الخارجية!! وهذا هو اللغز الذي أدركه أعداء الأمة الإسلامية، وعملوا به، وطبقوه. فعلى مستوى الفرد فإن أسهل هدم لذاته هو زعزعة ثقته بقيمه وبمعتقده وبنفسه.. وعلى مستوى الأسرة فإن أيسر طريقة لهدمها هو طعنها من العمق (تحرير ربة الأسرة، ليس من الجهل بل من القيم ومسؤوليات الرعاية). أما على مستوى الأمة فهو أمر لا يمكن أن يخفى على ذي بصيرة عبر تاريخنا المديد، بدءًا من العهد النبوي الشريف حتى يومنا هذا. والذي تغير فقط هو تسمية اللاعبين مع بقاء الأدوار. فتارة يكون الهدم على أيدي من عُرف بالمنافقين كما في العهد الشريف، وأخرى ببعض من تسموا بالمجددين، وثالثة بالليبراليين، ورابعة بالعلمانيين، وخامسة ببعض الحداثيين والمثقفين.. وغيرها من التسميات. بل ربما استند المشروع إلى بعض رجال الدين (في الداخل) الذين اشتروا الدنيا بالآخرة.. حتى الشيطان فإنه يستخدم الاستراتيجية نفسها؛ فهو لا يهدم قيم المؤمن بشكل مباشر، ولكنه يستخدم النَّفْس الأمَّارة بالسوء؛ لتقود صاحبها إلى الرذيلة.

الشيء الذي تتفق عليه مشاريع الهدم الخارجي كلها هو أنها تستند إلى المحركات الداخلية، أي الهدم بالوكالة.. والغريب في الأمر أن كل هذه المشاريع تعتمد على استراتيجية البناء بهدف الهدم!!! أعرف أن هذا مزعج للقارئ بسبب تناقضه مع المنطق. كيف يكون البناء وسيلة للهدم؟ ولكي تستقر الفكرة، ويزول اللبس، ما علينا إلا أن نتذكر المسجد الذي بناه المنافقون في العهد النبوي ضرارًا وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله، وتفريقًا بين المسلمين.. لقد هداهم الشيطان بمكره إلى أن لا يقوموا بالهدم والتخريب مباشرة، ولكن بأسلوب البناء الذي يبدو في ظاهره إصلاحًا، ولكنه يفضي إلى التخريب وتشتيت الأمة وهدم أسسها؛ لذا فإن الشيء المشترك بين معظم إن لم يكن كل هذه المشاريع هو أن القائمين على التنفيذ في الداخل – بعلمهم أو بجهلهم – يزعمون أنهم مصلحون ومطورون للمجتمع. البعض بحُسن نية ممتزجة بسذاجة وجهل، والآخر بسوء نية لتحقيق أهداف خاصة.. ما أشبه الليلة بالبارحة!!

الهدم بالوكالة

  • نشر بتاريخ 24/05/2018 في جريدة الجزيرة.