بسم الله الرحمن الرحيم

من سيحكم العالم؟

لم يعد خافياً على ذي بصيرة التطورات الجذرية التي حدثت وتحدث في العقد الثاني من هذا القرن، والتي غيّرت المشهد العالمي في أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والتقنية والأيديولوجية.

لقد غيرت تلك التطورات الهيكل العالمي للسلطة وموازين القوى العالمية وبسط النفوذ الفكري وترويج الأيديولوجيات!! ففي الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وحتى بداية العقد الثاني من هذا القرن 1945- 2011 كان المحرك الأساسي للتنمية المحلية للدول هو الجهاز الحكومي، الذي كان يسيطر على معظم إن لم يكن كل أبعاد التنمية، اقتصادية أو أيديولوجية أو غيرها، لكن الذي يبدو أن حدثاً تاريخياً كبيراً غيّر معايير اللعب وغيّر اللاعبين في مطلع العقد الثاني من هذا القرن.

قلة هم أولئك الذين يختلفون على أن المال يلعب دوراً رئيساً في تمكين الدول من تعزيز وجودها وتعزيز شرعيتها ودساتيرها وأيديولوجيتها، فطوال تلك الفترة التي امتدت لأكثر من ستين عاماً كان الجهاز الحكومي في أي بلد يملك الحصة الأكبر في الاقتصاد المحلي، ويهيمن على سياسات التصنيع والإنتاج والتصدير والاستيراد.. الخ، بالإضافة إلى هيمنته على مصادر المعلومات المهمة، وذلك من خلال أجهزته الاستخباراتية وغيرها، الأمر الذي مكّن عدداً من الحكومات العالمية، خاصة العظمى منها من بسط سلطاتها العسكرية الحسية وسلطاتها الناعمة، ونشر أيديولوجياتها داخل حدودها وخارجها في مواقع عدة من الكرة الأرضية.

خلال العشر سنوات الماضية تغيّرت مصادر الثروات، وتغيّرت معها موازين القوى والقدرات، وأصبح القطاع الأهلي في بعض الأرجاء يفوق قيمة الشركة الواحدة فيه ميزانية عدة دول؛ فعلى سبيل المثال بلغت القيمة السوقية لشركتي أبل ومايكروسوفت وحدهما في الربع الأخير من العام 2021 (5 تريليون دولار)، وهو ما يفوق مجموع الناتج المحلي الإجمالي لعدد ستة عشرة دولة مجتمعة.

كما أن تلك الشركات لم تعد تحتاج -كما هي الحال في الأجهزة الحكومية- إلى أجهزة استخباراتية للحصول على المعلومات المهمة عن الشعوب والأفراد، بل إنها أصبحت تتفوق على حكوماتها في سهولة الحصول على المعلومات بجهود متواضعة وتكاليف منخفضة وقدرات هائلة، سهلت عليها معالجتها وتوظيفها.

كل هذا أدى إلى ظهور حكومات جديدة، ولكنها من نوع آخر؛ فهي حكومات أهلية خاصة وليست عامة، وأصبح أثر بعض تلك الشركات وتأثيراتها العالمية يتعدى أثر عدد من حكومات الدول مجتمعة.

في القريب العاجل ربما نرى تأثيرات اجتماعية وأيديولوجية واقتصادية كبيرة لبعض الشركات العملاقة في العالم مثل شركة فيسبوك التي تسمت أخيراً بـ»ميتا»، وشركات أبل ومايكروسوفت وجوجل وأمازون… إلخ.

لقد تعدت أهداف هذه الشركات مجال اختصاصها التجاري، وأصبحت تروّج لمفاهيم اجتماعية وأيديولوجية واقتصادية.. إلخ، عبر أدواتها وأذرعها التقنية التي سهلت لها النفاذ Penetration إلى داخل المجتمعات المحلية والتغلغل في عقول أفرادها. ولا شك أنّ من يؤثر في العقول سيتمكن يوماً ما من توجيه السلوك!

هنا يمكن القول إن الشركات العملاقة في الدول العظمى ستتقاسم الهيمنة العالمية مع حكوماتها، وسيبقى النفوذ العسكري الحسي بيد الحكومات، ولكن القوة الناعمة ستميل لصالح الشركات التي سيكون تركيزها على الهيمنة أو الاستعمار الناعم (الجانب الفكري).

بقيت النقطة الأهم في الموضوع، وهي ما لذي يجب على المجتمعات عمله؟

دعونا أولاً نستعرض ردود الفعل العالمية المتوقعة، مستوحاة من التجربة التاريخية.

في الغالب ستنقسم المجتمعات تجاه ما يحدث من تطورات إلى ثلاث مجموعات:

المجموعة الأولى: وهم أصحاب ردود الأفعال، وهذه الفئة تقضي وقتها في التشجيع والجدل والاستهلاك، وانتظار ما يحققه الآخرون من إنجازات والاكتفاء بالانبهار بها. وفي أحسن الأحوال اقتناؤها وتبنيها كما جاءت، من دون تكييف لها على البيئة المحلية أو معرفة للأبعاد والتبعات المترتبة على اقتنائها واستعمالها.

المجموعة الثانية: هي التي تعتزم شراء وتبني الجديد، ولكن بعد قراءته قراءة متأنية، وفهمه والتدرب على استخدامه الاستخدام الأمثل الذي يتناسب إلى حد كبير مع احتياجاتها.

المجموعة الثالثة: وهي التي تعمل على المشاركة في امتلاك مراكز المعرفة (مصادر القوة)، وتشارك في التفكير والبحث والتطوير، وتساهم في صناعة الحدث وصياغة المستقبل.

هنا يكمن الاختيار، وهنا يكون القرار، وعلى كل مجتمع أن يختار!

والله الهادي إلى سواء السبيل.

 

من سيحكم العالم؟

*نشر بتاريخ 12/12/2021 في جريدة الجزيرة.

د. فهد بن صالح السلطان

اترك رد