بسم الله الرحمن الرحيم

عالم آخر في العام 2027

المتابع لما يجري على الساحة العالمية يدرك أن التغيير أصبح جزءًا من حياتنا على كل الأصعدة. وعلى عكس القاعدة التاريخية، فقد أصبح الاستقرار شذوذًا والتغيير هو القاعدة. وفضلاً على أن التغيير سنة كونية عاشها الناس في كل حقب التاريخ إلا أن التغيير الذي يحدث في عصرنا الحاضر يبدو مختلفًا تمامًا عن الذي عاشه أسلافنا بل الذي عاشه الجيل الحالي فيما قبل هذا العقد الزمني.

المتوقع – حسب رأي الكاتب الشخصي- حدوث تغيير جذري راديكالي في هيكلة المجتمع الدولي اقتصاديًا وتجاريًا وذلك في وقت قريب جدًا، ما بين العامين 2025-2027م. وسيفضي إلى زلزال اقتصادي اجتماعي سياسي على الساحة العالمية وتغير جوهري في موازين القوى العالمية.

وهذه هي المعطيات:

أولاً: الصين التي تنمو اقتصاديًا بشكل متسارع لا يضاهيه نمو آخر في أي مكان في العالم، تتوجه نحو إحداث نقلة نوعية في جودة المنتجات في العام 2025. ومن المتوقع أن تصبح الصين أكبر سوق للسلع الفاخرة في العالم بحلول عام 2025، حسب ما أوردته وكالة أنباء الصين الجديدة (شينخوا).

وفي الوقت الذي يتوقع فيه خبراء الاقتصاد أن يتجاوز الناتج الاقتصادي العالمي في العام الحالي 100 تريليون دولار، وذلك لأول مرة في التاريخ البشري، فإن التوقعات تشير إلى أن الصين ستصبح أكبر اقتصاد في العالم في غضون السنوات السبع القادمة حسبما ورد في تقرير شركة الاستشارات الإدارية العالمية (باين آند كومباني: تقرير السلع الفاخرة بالصين لعام 2021).

ثانيًا: الهند تدخل ميدان المنافسة الاقتصادية العالمية بشكل لافت. تتوقع دراسات اقتصادية أن حجم الاقتصاد الرقمي الهندي سيصل في حلول العام 2025 إلى تريليون دولار.

وذكرت الدراسة، الصادرة عن إنفست كورب، المؤسسة المالية المتخصصة في الاستثمارات البديلة، أن الميزة الديموغرافية للهند وارتفاع دخلها، يمكنان البلاد من أن تصبح الاقتصاد الرقمي الأسرع نموًا في العالم.

ثالثًا: دخول دول جديدة في ساحة الاقتصاد العالمي كالهند وكوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا التي يتوقع أن تحتل مركزًا عالميًا متقدمًا في منتصف العقد الحالي.

رابعًا: الثورة الفكرية التي بدأت تظهر في إفريقيا السوداء وتضع علامات استفهام على استنزاف ثرواتها من قِبل بعض الدول الغربية وظهور أفكار مناهضة للحليف التقليدي على اعتبار أن علاقته الحالية أشبه ما تكون بالاستعمار الاقتصادي الناعم.

خامسًا: إفاقة الدب الروسي من غفوته، وطموحه في مشاركة الغرب كيكة الثروة العالمية والحصول على نصيبه منها.

سادسًا: تبعات الحرب الروسية الأوكرانية والتي بدأت تكشف القناع عن كثيرٍ من الحقائق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الغامضة بل والمجهولة على الوسط الاجتماعي العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945. وتوجّه كثير من الدول إلى التركيز على قدراتها المحلية في الزراعة والإنتاج.. والاحتفاظ بمخزون غذائي مناسب لاحتياجاتها المحلية، الأمر الذي سيفضي إلى زيادة في ارتفاع أسعار السلع والخدمات.

سابعًا: ارتفاع أصوات عالمية تطالب بإعادة النظر في استمرار الدولار كالعملة العالمية الرئيسة على اعتبار أنه لم يعد مغطى بالذهب منذ عام 1971 عندما أعلن الرئيس نيكسون عدم مسؤولية الولايات المتحدة عن أي ضمانات لتغطيته.

ثامنًا: تراجع دور الاتحاد الأوربي وخروج بريطانيا منه وظهور خلافات داخلية بين أعضائه.. وفي المقابل تزايد مؤشرات التحالف الروسي الصيني.

ثامنًا: التحديات التي يواجهها الاقتصاد الألماني – أكبر اقتصادات أوروبا – والتي بدأت تظهر ملامحها بشكل جلي عقب تدهور العلاقات الأوروبية الروسية وتوقف إمدادات الغاز الروسي لألمانيا.

تاسعًا: تزايد الديون العالمية نسبة إلى الموجودات العالمية والتي أصبحت تمثل 353 % من إجمالي الناتج المحلي العالمي وهي كما وصفها البنك الدولي الأوسع والأسرع خلال الخمسين سنة الماضية.

عاشرًا: من المتوقع حسب رأي كثيرٍ من المحللين إعلان عددٍ من الدول المدينة – في غضون سنتين إلى ثلاث سنوات – عدم قدرتها على الوفاء بديونها وإعلان البعض إفلاسه. وقد أعلنت بالفعل ست دول تخلفها عن دفع الديون (الإفلاس) وهي الأرجنتين والإكوادور ولبنان وبليز وسورينام وزامبيا.

كما حذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في حوار له مع صحيفة «فاينانشيال تايمز» من أزمة ديون عالمية تهدد بموجة من الفقر والجوع والاضطرابات الاجتماعية والصراعات في الدول النامية حول العالم.

حادي عشر: ارتفاع سعر الطاقة والذي من شأنه أن يفاقم المشاكل والتعقيدات الاقتصادية العالمية أجمع.

وباختصار سنشهد قريبًا إعادة هيكلة كلية للاقتصاد والتجارة العالميين مع دخول لاعبين جدد.. وربما – وهو الأرجح – نشهد هيكلة غير مؤسسية تتلاشى فيها كثير من قوانين وأنظمة منظمة التجارة العالمية WTO، ويصبح الميدان العالمي أقل انضباطًا بل سيكون ساحة للصراعات الاقتصادية والايدولوجية…إلخ وستزداد الفجوة الاقتصادية بين المجتمعات العالمية.. ستزداد المجتمعات المسيطرة اقتصاديًا غنى على حساب المجتمعات الفقيرة.

هذه هي الصورة اللوحية للمجتمع العالمي التي يتوقعها الكاتب والتي من المتوقع أن نراها قريبًا وفي غضون السنوات الخمس القادمة..

والأهم من هذا كله هو محاولة الإجابة عن السؤال التالي: ما الذي يمكن عمله في ظل هذه المعطيات؟

الكل يدرك صعوبة توفر إجابة واضحة عن السؤال ولكن لعلنا نتفق – من حيث المبدأ- على أنه يحسن بنا العمل على قراءة ما يجري حاليًا واستشراف ما سيجري مستقبلاً بشكل متأنٍ ودقيق والعمل على المشاركة في صياغة المستقبل الاقتصادي العالمي دون الاكتفاء بمحاولة الاستجابة له. ذاك لأن أفضل وسيلة للتأثير في المستقبل والاستفادة منه هي المشاركة في صياغته بإذن الله.

لا شك أن ما يتم تنفيذه حاليًا في المملكة من برامج تقوم على رؤية ثاقبة وطموحات عالية ولكن مستجدات المرحلة (العالمية) المتسارعة والعنيفة تتطلب الوقوف مع النفس من وقت لآخر ومراجعة المسار.. ومن المعلوم أن رؤية المملكة بنيت على المرونة الاستراتيجية، وهذا ما يؤكده سمو ولي العهد حفظه الله فهي تخضع للمراجعة الموضوعية ويتم مراجعتها إذا كانت المصلحة العليا تتطلب ذلك، ومن هنا فقد يكون من المناسب قراءة المسار الاقتصادي الحالي في ظل مستجدات المرحلة والتحديات الاقتصادية العالمية وصولاً إلى بناء مسار اقتصادي مبتكر وخاص بنا. ماذا لو فكرنا في ابتكار أدوات ومنتجات استثمارية جديدة بعيدة عن ميدان المنافسة العالمي، مبنية على الإبداع وعلى ما لدينا من ميز نسبية وتنافسية.

لعل من الحكمة ألا نحاول منافسة الآخرين في الميادين الاقتصادية محل الصراع التنافسي الجائر وأن نفكر خارج الصندوق في محاولة لرسم مسار مستقل وخاص بنا. كأن نركز على العمل فيما يعرف بالمحيط الأزرق ونبتعد بقدر الإمكان عن الدخول في ميدان المنافسة الاقتصادية الجائرة وغير العادلة وغير المستقرة (المحيط الأحمر). ومادامت الحكمة ضالة المؤمن – كما في شرعنا – فدعونا نستعير حكمة عسكرية وردت في كتاب الصيني صن تزو (فن الحرب) الذي ألفه قبل 2500 سنة والذي يعد واحدًا من أهم 100 كتاب في التاريخ البشري. يقول صن تزو «إن خوض 100 معركة والانتصار فيها جميعًا ليس نجاحًا أو انتصارًا بالمعنى الحقيقي وإنما يكمن التفوق الكبير في إخضاع العدو دون قتال». والمبدأ نفسه ينطبق على ميدان الاقتصاد والأعمال حيث يمكن القول إن أفضل طريقة للنجاح وتلافي سلبيات البيئة التنافسية الشرسة هي ترك ميدان التنافس المحموم والعمل في ميدان جديد لا يستطيع المنافسون المنافسة فيه (المحيط الأزرق). عندما ننافس الآخرين في ميادين اقتصادية تفوقوا فيها وسبقونا خبرة في أدائها سواء أكانت خدمية أو إنتاجية فسنواجه كثيرًا من التحديات وقليلاً من الفرص. على عكس الحال عندما نبتدع مسارنا الخاص بشكل ابتكاري في مياه زرقاء يعكس ما لدينا من قدرات ميز تنافسية. وكمثال (فقط)، ماذا لو فكرنا في استقطاب أفضل 100 رائد أعمال في العالم وطلب من كل واحد منهم – وفق حوافز معينة – أن يقترح 3 مشروعات ريادية عالمية مبتكرة بأحجام اقتصادية ضخمة.. سيصبح لدينا ثلاثمائة مبادرة اقتصادية مبتكرة كبيرة، يمكننا اختيار مجموعة منها والاستثمار فيها. ماذا لو تم مراجعة سلسلة الإمدادات في ضوء المستجدات ومراكز القوى الاقتصادية العالمية الجديدة. ماذا لو تم دراسة ما لدينا من ميز نسبية في معظم مناطق المملكة دراسة عميقة ومن ثم البناء عليها وتطويرها لتصبح مصدر ثروة وبيئة لتوظيف الشباب.. ولدينا الكثير والكثير من الفرص الاستثمارية الواعدة والتي لا يمكن أن ينافسنا فيها الآخرون.

الذي أردت أن أصل إليه هو مجرد اقتراح في أن نقف مع أنفسنا قليلاً ونتمعن في مستجدات المرحلة (وهي مستجدات مفصلية مهمة وخطيرة) ونبني على معطيات رؤيتنا الطموحة ونصنع مسارنا الخاص ونحول التحديات الاقتصادية العالمية إلى فرص انطلاقًا من القاعدة الاقتصادية (الفرص تولد من رحم الأزمات).. فنحن بفضل الله ثم بطموحات قيادتنا أهل لذلك.

والله الهادي إلى سواء السبيل،،،

د. فهد بن صالح السلطان

اترك رد